فصل: ذكر رد نسب آل أبي بكرة وآل زياد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عزل المهدي إسماعيل عن الكوفة، واستعمل عليها إسحاق بن الصباح الكندي ثم الأشعثي، وقيل عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي.
وفيها عزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة، وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة، واستعمل مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري، وأمره بإنصاف من تظلم من سعيد بن دعلج، ثم صرفت الأحداث فيها إلى عمارة بن حمزة فولاها المسور بن عبد الله الباهلي.
وفيها عزل قثم بن العباس عن اليمامة، فوصل كتاب عزله وقد مات واستعمل مكانه بشر بن المنذر البجلي.
وفيها عزل الهيثم بن سعيد بن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بن صالح.
وفيها أعتنف المهدي الخيزران أم ولده، وتزوجها وتزوج أم عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد الملك.
وفيها احترقت السفن عند قصر عيسى ببغداد بما فيها واحترق ناس كثير.
وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل عليها أبو ضمرة محمد بن سليمان.
وفيها غزا العباس بن محمد الصائفة الرومية، وعلى المقدمة الحسن الوصيف، فبلغوا أنقرة، وفتحوا مدينة للروم، ومطمورة، ولم يصب من المسلمين أحد ورجعوا سالمين.
وفيها عزل عبد الصمد بن علي علن المدينة، واستعمل عليها محمد بن عبد الله الكثيري. ثم عزله واستعمل مكانه محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي.
وفيها بني المهدي سور الرصافة ومسجدها، وحفر خندقها.
وفيها توفي معبد بن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، واستعمل مكانه روح بن حاتم، أشار به أبو عبيد الله وزير المهدي.
وفيها أطلق المهدي من كان في حبوس المنصور، إلا من كان عنده تبعة من دم أو مال، أو من يسعى في الأرض بالفساد. وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود، مولى بني سليم.
وفيها توفي حميد بن قحطبة وهو على خراسان، واستعمل المهدي بعده عليها أبا عون عبد الملك بن يزيد.
وحج بالناس هذه السنة يزيد بن منصور خال المهدي، عند قدومه من اليمن، وكان المهدي قد كتب إليه بالقدوم عليه وتوليته الموسم.
وكان أمير المدينة عبد الله بن صفوان الجمحي، وعلى أحداث الكوفة إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك، وعلى صلاة البصرة عبد الملك بني أيوب، وعلى أحداثها عمارة بن حمزة، وعلى قضائها عبيد الله بن الحسن، وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بن حمزة، وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى اليمن رجاء بن روح، وعلى اليمامة بشر بن المندر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد، وكان حميد بن قحطبة قد مات فيها، فول المهدي أبا عون.
وكان على الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر أبو ضمرة محمد بن سليمان.
وفيها كان شقنا قد انتشر في نواحي شنت برية، فسير إليه عبد الرحمن، صاحب الأندلس، جيشاً، ففارق مكانه، وصعد الجبال كعادته فعاد الجيش عنه.
وفيها مات محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، الفقيه، بالكوفة، وهو مدني، وعمره تسع وسبعون سنة.
وفيها توفي عبد العزيز بن أبي رواد مولى المغيرة بني المهلب، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني، ومخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، وحسين بن واقد مولى ابن عامر، وكان على قضاء مرو، وكان يشتري الشيء من السوق فيحمله إلى عياله. ثم دخلت:

.سنة ستين ومائة:

.ذكر خروج يوسف البرم:

في هذه السنة خرج يوسف بن إبراهيم، المعروف بالبرم، بخراسان، منكراً هو ومن معه على المهدي سيرته التي يسر بها، واجتمع معه بشر كثير، فتوجه إليه يزيد بن مزيد الشيباني، وهو ابن أخي معن بن زائدة، فلقه، فاقتتلا، حتى صارا إلى المعانقة، فأسره يزيد بن مزبد وبعث به إلى المهدي، وبعث معه وجوه أصحابه، فلما بلغوا النهروان حمل يوسف على بعير، قد حول وجهه إلى ذنبه، وأصحابه مثله، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، وقطعت يدا يوسف ورجلاه، وقتل هو وأصحابه، وصلبوا على الجسر.
وقد قيل إنه كان حرورياً، وتغلب على بوشنج وعليها مصعب بن زريق، جد طاهر بن الحسين، فهرب منه، وتغلب أيضاً على مرو الروذ والطالقان والجوزجان، وقد كان من جملة أصحابه أبو معاذ الفريابي، فقبض معه.

.ذكر بيعة موسى الهادي:

كان جماعة من بني هامش وشيعة المهدي قد خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، والبيعة لموسى الهادي بن المهدي، فلما علم المهدي بذلك سره، وكتب إلى عيسى بن موسى بالقدوم عليه، وهو بقرية الرحبة، من أعمال الكوفة، فأحس عيسى بالذي يراد منه، فامتنع من القدوم، فاستعمل المهدي على الكوفة روح بن حاتم، للإضرار به، فلم يجد روح إلى الإضرار به سبيلاً، لأنه كان لا يقرب البلد إلا كل جمعة أو يوم عيد.
وألح المهدي عليه وقال له: إنك لم تجبني إلى أن تنخلع من ولاية العهد لموسى وهارون استحللت منك، بمعصيتك، ما يستحل من أهل المعاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعاً؛ فلم يقدم عليه، وخيف انتفاضه، فوجه إليه المهدي عمه العباس بن محمد برسالة وكتاب يستدعيه، فلم يحضر معه، فلما عاد والعباس، وجه المهدي إليه أبا هريرة محمد بن فروخ القائد في ألف من أصحابه ذوي البصائر في التشيع للمهدي، وجعل مع كل واحد منهم طبلاً، وأمرهم أن يضربوا طبولهم جميعاً عند قدومهم إليه، فوصلوا سحراً، وضربوا طبولهم، فارتاع عيسى روعاً شديداً، ودخل عليه أبو هريرة، وأمره بالشخوص معه فاعتل بالشكوى، فلم يقبل منه وأخذه معه.
فلما قدم عيسى بن موسى نزل دار محمد بن سليمان في عسكر المهدي، فأقام أياماً يختلف إلى المهدي ولا يكلم بشيء، ولا يرى مكروهاً، فحضر الدار يوماً قبل جلوس المهدي فجلس في مقصورة للربيع، وقد اجتمع شيعة رؤساء المهدي على خلعه، فثاروا به وهو في المقصورة، فأغلق الباب دونهم، فضربوا الباب بالعمد، حتى هشموه، وشتموا عيسى أقبح الشتم، وأظهر المهدي إنكاراً لما فعلوه، فلم يرجعوا، فبقوا في ذلك أياماً إلى أن كاشفه أكابر أهل بيته، وكان أشدهم عليه محمد بن سليمان.
وألح عليه المهدي، فأبى، وذكر أن عليه إيماناً في أهله وماله، فأحضر له من القضاة والفقهاء عدة، منهم: محمد بن عبد الله بن علاثة، ومسلم بن خالد الزنجي، فأفتوه بما رأوا، فأجاب إلى خلع نفسه لأربع بقين من المحرم، وبايع للمهدي ولابنه موسى الهادي.
ثم جلس المهدي من الغد، وأحضر أهل بيته، وأخذ بيعتهم، ثم خرج إلى الجامع، وعيسى معه، فخطب الناس، وأعلمهم بخلع عيسى والبيعة للهادي، ودعاهم إلى البيعة، فسارع الناس إليها، وأشهد على عيسى بالخلع، فقال بعض الشعراء:؟كره الموت أبو موسى وقد كان في الموت نجاةٌ وكرم.
خلع الملك وأضحى ملبساً ** ثوب لؤمٍ ما ترى منه القدم

الرحبة بضم الراء قرية عند الكوفة، وصبح بضم الصاد المهملة، وكسر الباء الموحدة.

.ذكر فتح مدينة باربد:

كان المهدي قد سير، سنة تسع وخمسين ومائة، جيشاً في البحر، وعليهم عبد الملك بن شهاب المسمعي إلى بلاد الهند في جمع كثير من الجند والمتطوعة، وفيهم الربيع بن صبيح، فساروا حتى نزلوا على باربد، فلما نازلوها حصروها من نواحيها، وحرص الناس بعضهم بعضاً على الجهاد، وضايقوا أهلها، ففتحها الله عليهم هذه السنة عنوةً واحتمى أهلها بالبد الذي لهم، فأحرقه المسلمون عليهم، فاحترق بعضهم، وقتل الباقون، واستشهد من المسلمين بضعةٌ وعشرون رجلاً، وأفاءها الله عليهم، فهاج عليهم البحر، فأقاموا إلى أن يطيب، فأصابهم مرض في أفواههم، فمات منهم نحو من ألف رجل فيهمالربيع بن صبيح، ثم رجعوا.
فلما بلغوا ساحلاً من فارس يقال له بحر حمران عصفت بهم الريح ليلاً، فانكسر عامة مراكبهم، فغرق البعض، ونجا البعض.
قيل: وفيها جعل أبان بن صدقة كاتباً لهارون الرشيد ووزيراً له.
وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة، واستعمل عليها معاذ بن مسلم.
وفيها غزا ثمامة بن العبس الصائفة، وغزا الغمر بن العباس الخثعمي بحر الشام.

.ذكر رد نسب آل أبي بكرة وآل زياد:

وفي هذه السنة أمر المهدي برد نسب آل أبي بكر من ثقيف إلى ولاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وسبب ذلك أن رجلاً منهم رفع ظلامته إلى المهدي، وتقرب إليه فيها بولاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له المهدي: إن هذا نسب ما يقرون به إلا عند الحاجة، والاضطرار إلى التقرب إلينا. فقال له: من جحد ذلك، يا أمير المؤمنين، فإنا سنقر، وأنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمر بآل زياد فيخرجوا من نسبهم الذي ألحقوا به، ورغبوا عن قضاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ويردوا إلى عبيد في موالي ثقيف.
فأمر المهدي برد آل أبي بكرة إلى ولاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكتب فيه إلى محمد بن موسى بذلك، وأن من أقر منهم بذلك ترك ماله بيده، ومن أباه اصطفى ماله.
فعرضهم، فأجابوا جميعاً إلا ثلاثة نفر، وكذلك أيضاً أمر برد نسب آل زياد إلى عبيد وأخرجهم من قريش.
فكان الذي حمل المهدي على ذلك، مع الذي ذكرناه، أن رجلاً من آل زياد قدم عليه يقال له الصغدي بن سلم بن حرب بن زياد، فقال له المهدي: من أنت؟ فقال: ابن عمك. فقال: أي بني عمي أنت؟ فذكر نسبه، فقال المهدي: يا ابن سمية الزانية! متى كنت ابن عمي؟ وغضب وأمر به، فوجئ في عنقه وأخرج، وسأل عن استلحاق زياد، ثم كتب إلى العامل بالبصرة بإخراج آل زياد من ديوان قريش والعرب، وردهم إلى ثقيف، وكتب في ذلك كتاباً بالغاً، يذكر فيه استلحاق زياد، ومخالفة حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه، فأسقطوا من ديوان قريش، ثم إنهم بعد ذلك رشوا العمال، حتى ردهم إلى ما كانوا عليه، فقال خالد النجار:
إنّ زياداً ونافعاً وأبا ** بكرة عندي من أعجب العجب

ذا قرشيٌّ كما يقول وذا ** مولىً وهذا بزعمه عربي

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة توفي عبد الله بن صفوان الجمحي، أمير المدينة، واستعمل عليها مكانه محمد بن عبد الله الكثيري، ثم عزل واستعمل مكانه زفر بن عاصم الهلالي، وجعل على القضاء عبد الله بن محمد بن عمران الطلحي.
وفيها خرج عبد السلام الخارجي بنواحي الموصل.
وفيها عزل بسطام بن عمرو عن لسند، واستعمل عليها روح بن حاتم؛ وحج بالناس، هذه السنة، المهدي، واستخلف على بغداد ابنه موسى وخاله يزيد بن منصور، واستصحب معه جماعة من أهل بيته، وابنه هارون الرشيد، وكان معه يعقوب بن داود، فأتاه بمكة بالحسن بن إبراهيم بن عبد الله العلوي الذي كان استأمن له، فوصله المهدي وأقطعه.
وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة وكساها كسوة جديدة، وكان سبب نزعها أن حجبة الكعبة ذكروا له أنهم يخافون على الكعبة أن تتهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فنزعها، وكانت كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين، وما قبلها من عمل اليمن؛ وقسم مالاً عظيماً، وكان معه من العراق ثلاثون ألف ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، ففرق ذلك كله، وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذ خمسمائة من الأنصار يكونون حرساً له بالعراق، وأقطعهم بالعراق، وأجرى عليهم الأرزاق.
وحمل إليه محمد بن سليمان الثلج إلى مكة، وكان أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة، ورد المهدي على أهل بيته وغيرهم وظائفهم التي كانت مقبوضة عنهم.
وكان لي البصرة، وكور دجلة، والبحرين، وعمان، وكور الأهواز، وفارس، محمد بن سليمان، وعلى خراسان معاذ بن مسلم، وباقي الأمصار على ما تقدم ذكره.
وفيها أرسل عبد الرحمن الأموي بالأندلس أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، وتمام بن علقمة، إلى شقنا، فحاصراه شهوراً بحصن شبطران، وأعياهما أمره، فقفلا عنه، ثم إن شقنا، بعد عودهما عنه، خرج من شبطران إلى قرية من قرى شنت برية راكباً على بغلته التي تسمى الخلاصة، فاغتاله أبو معن وأبو خزيم، وهما من أصحابه، فقتلاه، ولحقا بعبد الرحمن، ومعهما رأسه، فاستراح الناس من شره.
وفيها مات داود بن نصير الطائي الزاهد، وكان من أصحاب أبي حنيفة؛ وعبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي أيضاً، وشعبة بن الحجاج أبو بسطام، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة؛ وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وقيل توفي سنة أربع وستين.
وفيها توفي الربيع بن مالك بن أبي عامر، عم مالك بن أنس الفقيه، كنيته أبو مالك، وكانوا أربعة إخوة، أكبرهم أنس والد مالك، ثم أويس جد إسماعيل بن أويس، ثم نافع، ثم الربيع.
وفيها توفي خليفة بن خياط العصفري الليثي، وهو جد خليفة بن خياط.
خياط بالخاء المعجمة، وبالياء المثناة من تحت وفيها توفي الخليل بن أحمد البصري الفرهودي النحوي، الإمام المشهور في النحو، أستاذ سيبويه. ثم دخلت:

.سنة إحدى وستين ومائة:

.ذكر هلاك المقنع:

في هذه السنة سار معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر إلى المقنع، وعلى مقدمته سعيد الحرشي، وأتاه عقبة بن مسلم من زم، فاجتمع به بالطواويس، وأوقعوا بأصحاب المقنع، فهزموهم، فقصد المنهزمون إلى المقنع بسنام فعمل خندقها وحصنها، وأتاهم معاذ فحاربهم، فجرى بينه وبين الحرشي نفرةٌ، فكتب الحرشي إلى المهدي في معاذ، ويضمن له الكفاية إن أفرده بحرب المقنع، فأجابه المهدي إلى ذلك، فانفرد الحرشي بحربه، وأمده معاذ بابنه رجاء في جيش، وبكل ما التمسه منه، وطال الحصار على المقنع، فطلب أصحابه الأمان سراً منه، فأجابهم الحرشي إلى ذلك، فخرج نحو ثلاثين ألفاً، وبقي معه زهاء ألفين من أرباب البصائر. وتحول رجاء بن معاذ وغيره فنزلوا خندق المقنع في أصل القلعة، وضايقوه.
فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وأهله، وسقاهم السم، فأتى عليهم، وأمر أن يحرق هو بالنار لئلا يقدر على جثته؛ وقيل: بل أحرق كل ما في قلعته من دابة وثوب وغير ذلك، ثم قال: من أحب أن يرتفع معي إلى السماء فليلق نفسه معي في هذه النار! وألقى بنفسه مع أهله، ونسائه، وخواصه، فاحترقوا، ودخل العسكر القلعة، فوجدوها خالية خاوية.
وكان ذلك مما زاد في افتتان من بقي من أصحابه، والذين يسمون المبيضة بما وراء النهر من أصحابه، إلا أنهم يسرون اعتقادهم؛ وقيل: بل شرب هو أيضاً من السم، فمات، فأنفذ الحرشي رأسه إلى المهدي، فوصل إليه وهو بحلب سنة ثلاث وستين ومائة، في غزواته.

.ذكر تغير حال أبي عبيد الله:

في هذه السنة تغيرت حال أبي عبيد الله وزير المهدي، وقد ذكرنا فيما تقدم سبب اتصاله به أيام المنصور، ومسيره معه إلى خراسان؛ فحكى الفضل بن الربيع أن الموالي كانوا يقعون في أبي عبيد الله عند المهدي ويحرضونه عليه؛ وكانت كتب أبي عبيد الله ترد على المنصور بما يفعل، ويعرضها على الربيع، ويكتب الكتب إلى المهدي بالوصاة به، وترك القول فيه.
ثم إن الربيع حج مع المنصور حين مات، وفعل في بيعه المهدي ما ذكرناه، فلما قدم جاء إلى باب أبي عبيد الله، قبل المهدي، وقبل أن يأتي أهله، فقال له ابنه الفضل: تترك أمير المؤمنين ومنزلك وتأتيه! قال: هو صاحب الرجل، وينبغي أن نعامله غير ما كنا نعامله به، ونترك ذكر نصرتنا له.
فوقف على بابه من المغرب إلى أن صليت العشاء الآخرة، ثم أذن له، فدخل فلم يقم له وكان متكئاً، فلم يجلس، ولا أقبل عليه، وأراد الربيع أن يذكر له ما كان منه في أمر البيعة، فقال: قد بلغنا أمركم؛ فأوغر صدر الربيع، فلما خرج من عنده قال له ابنه الفضل: لقد بلغ فعل هذا بك ما فعل، وكان الرأي أن لا تأتيه، وحيث أتيته وحجبك أن تعود، وحيث دخلت عليه فلم يقم لك أن تعود.
فقال لابنه: أنت أحمق حيث تقول: كان ينبغي أن لا تجيء، وحيث جئت وحجبت أن تعود، ولما دخلت فلم يقم لك كان ينبغي أن تعود؛ ولم يكن الصواب إلا ما عملته، ولكن والله، وأكد اليمين، لأخلعن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ مكروهه.
وسعى في أمره، فلم يجد عليه طريقاً لاحتياطه في أمر دينه وأعماله، فأتاه من قبل ابنه محمد، فلم يزل يحتال ويدس إلى المهدي، ويتهمه ببعض حرمه، وبأنه زنديق، حتى استحكمت التهمة عند المهدي بابنه، فأمر به فأحضر، وأخرج أبوه، ثم قال له: يا محمد! اقرأ، فلم يحسن يقرأ شيئاً، فقال لأبيه: ألم تعلمني أن ابنك يحفظ القرآن؟ قال: بلى ولكنه فارقني منذ سنين، وقد نسي. قال: فقم فتقرب إلى الله بدمه، فقام ليقتل ولده، فعثر فوقع، فقال العباس بن محمد: إن رأيت أن يعفي الشيخ، فافعل. فأمر بابنه فضربت عنقه، وقال له الربيع: يا أمير المؤمنين! تقتل ابنه وتثق إليه! لا ينبغي ذلك. فاستوحش منه، وكان من أمره ما نذكره.

.ذكر عبور الصقلبي إلى الأندلس وقتله:

وفي هذه السنة، وقيل سنة ستين، عبر عبد الرحمن بن حبيب الفهري، المعروف بالصقلبي، وإنما سمي به لطوله وزرقته وشقرته، من إفريقية إلى الأندلس محارباً لهم، ليدخلوا في الطاعة للدولة العباسية، وكان عبوره في ساحل تدمير، وكاتب سليمان بن يقظان بالدخول في أمره، ومحاربة عبد الرحمن الأموي، والدعاء إلى طاعة المهدي.
وكان سليمان ببرشلونة، فلم يجبه، فاغتاظ عليه، وقصد بلده فيمن معه من البربر، فهزمه سليمان، فعاد الصقلبي إلى تدمير، وسار عبد الرحمن الأموي نحوه في العدد والعدة، وأحرق السفن تضييقاً على الصقلبي في الهرب، فقصد الصقلبي جبلاً منيعاً بناحية بلنسية، فبذل الأموي ألف دينار لمن أتاه برأسه، فاغتاله رجل من البربر، فقتله، وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فأعطاه ألف دينار، وكان قتله سنة اثنتين وستين ومائة.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها ظفر نصر بن محمد بن الأشعث بعبد الله بن مروان بالشام، فأخذه، وقدم به على المهدي، فحبسه في المطبق، وجاء عمرو بن سهلة الأشعري، فادعى أن عبد الله قتل أباه، وحاكمه عند عافية القاضي فتوجه الحكم على عبد الله فجاء عبد العزيز بن مسلم العقيلي إلى القاضي فقال: زعم عمرو بن سهلة أن عبد الله قتل أباه، وكذب، والله، ما قتل أباه غيري؛ أنا قتلته بأمر مروان، وعبد الله بريء من دمه؛ فترك عبد الله، ولم يعرض المهدي لعبد العزيز، لأنه قتله بأمر مروان.
وفيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد، فنزل بدابق، وجاشت الروم مع ميخائيل في ثمانين ألفاً، فأتى عمق مرعش، فقتل، وسبى، وغنم، وأتى مرعش فحاصرها، فقاتلهم، فقتل من المسلمين عدة كثيرة. وكان عيسى بن علي مرابطاً بحصن مرعش فانصرف الروم إلى جيحان، وبلغ الخبر المهدي، فعظم عليه، وتجهز لغزو الروم، على ما سنذكره سنة اثنتين وستين ومائة، فلم يكن للمسلمين صائفة من أجل ذلك.
وفيها أمر المهدي ببناء القصور بطريق مكة، أوسع من القصور التي بناها السفاح من القادسية إلى زبالة، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل منها، وبتجديد الأميال والبرك، وبحفر الركايا، وولي ذلك يقطين بن موسى، وأمر بالزيادة في مسجد البصرة، وتقصير المنابر في البلاد، وجعلها بمقدار منبر النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى اليوم.
وفيها أمر المهدي يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، ففعل، فكان لا ينفذ المهدي كتاباً إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب إلى أمينه بإنفاذ ذلك.
وفيها غزا الغمر بن العباس في البحر.
وفيها ولي نصر بن محمد بن الأشعث السند مكان روح بن حاتم، ثم عزل بعبد الملك بن شهاب، فبقي عبد الملك ثمانية عشر يوماً ثم عزل وأعيد نصر من الطريق.
وفيها استقضى المهدي عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة.
وفيها عزل الفضل بن صالح عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الصمد بن علي، واستعمل عيسى بن لقمان على مصر، ويزيد بن منصور على سواد الكوفة، وحسان الشروي على الموصل، وبسطام بن عمرو التغلبي على أذربيجان.
وفيها توفي نصر بن مالك من فالج أصابه، وولى المهدي بعده شرطته حمزة بن مالك، وصرف أبان بن صدقة عن هارون الرشيد، وجعل مع موسى الهادي، وجعل مع هارون يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل محمد بن سليمان أبو ضمرة عن مصر في ذي الحجة، ووليها سلمة بن رجاء؛ وحج بالناس موسى الهادي وهو ولي عهد؛ وكان عامل مكة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان؛ وعامل اليمن علي بن سليمان؛ وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور، وعلى أحداثها إسحاق بن منصور.
وفيها توفي سفيان الثوري، وكان مولده سنة سبع وتسعين؛ وزائدة بن قدامه أبو الصلت الثقفي الكوفي؛ وإبراهيم بن أدهم بن منصور أبو إسحاق الزاهد، وكان مولده ببلخ، وانتقل إلى الشام فأقام به مرابطاً، وهو من بكر بن وائل، ذكره أبو حاتم البستي. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وستين ومائة:

.ذكر قتل عبد السلام الخارجي:

وفي هذه السنة قتل عبد السلام بن هاشم اليشكري بقنسرين، وكان قد خرج بالجزيرة، فاشتدت شوكته، وكثر أتباعه، فلقيه عدة من قواد المهدي فيهم: عيسى بن موسى، القائد، فقتله في عدة ممن معه، وهزم جماعة من القواد فيهم شبيب بن واج المروروذي، فندب المهدي إلى شبيب ألف فارس، وأعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، فوافوا شبيباً فخرج بهم في طلب عبد السلام، فهرب منه، فأدركه بقنسرين، فقاتله، فقتله بها.